فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} فيه خمس مسائل:
الأولى:
قوله تعالى: {وإلى ثَمُودَ} أي أرسلنا إلى ثمود: {أَخَاهُمْ} أي في النسب.
{صَالِحًا}.
وقرأ يحيى بن وثّاب {وَإِلَى ثَمُودٍ} بالتنوين في كل القرآن؛ وكذلك روي عن الحسن.
واختلف سائر القرّاء فيه فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع.
وزعم أبو عبيدة أنه لولا مخالفة السواد لكان الوجه ترك الصرف؛ إذ كان الأغلب عليه التأنيث.
قال النحاس: الذي قال أبو عبيدة رحمه الله من أن الغالب عليه التأنيث كلام مردود؛ لأن ثمودًا يقال له حيّ؛ ويقال له قبِيلة، وليس الغالب عليه القبِيلة، بل الأمر على ضدّ ما قال عند سيبويه.
والأجود عند سيبويه فيما لم يقُل فيه بنو فلان الصَّرف؛ نحو قريش وثقيف وما أشبههما، وكذلك ثمود، والعلة في ذلك أنه لما كان التذكير الأصل، وكان يقع له مذكر ومؤنث كان الأصل الأخف أولى.
والتأنيث جيد بالغ حسن.
وأنشد سيبويه في التأنيث:
غَلبَ المساميحَ الوليدُ سَمَاحةً ** وكَفَى قريشَ المعضِلاتِ وسادَهَا

الثانية:
قوله تعالى: {قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} تقدّم.
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} أي ابتدأ خلقكم من الأرض، وذلك أن آدم خلق من الأرض على ما تقدّم في البقرة والأنعام وهم منه. وقيل: أنشأكم في الأرض.
ولا يجوز إدغام الهاء من {غيره} في الهاء من {هو} إلا على لغة من حذف الواو في الإدراج.
{واستعمركم فِيهَا} أي جعلكم عُمّارها وسكّانها.
قال مجاهد: ومعنى {اسْتَعْمَرَكُمْ} أعمركم من قوله: أعْمر فلان فلانًا داره؛ فهي له عُمْرى.
وقال قَتَادة: أسكنكم فيها؛ وعلى هذين القولين تكون استفعل بمعنى أفعل؛ مثل استجاب بمعنى أجاب.
وقال الضّحاك: أطال أعماركم، وكانت أعمارهم من ثلثمائة إلى ألف.
ابن عباس: أعاشكم فيها.
زيد بن أسلم: أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن، وغرس أشجار.
وقيل: المعنى ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها.
الثالثة:
قال ابن العربيّ قال بعض علماء الشافعية: الاستعمار طلب العمارة، والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب؛ قال القاضي أبو بكر: تأتي كلمة استفعل في لسان العرب على معان: منها؛ استفعل بمعنى طلب الفعل كقوله: استحملته أي طلبت منه حملانًا؛ وبمعنى اعتقد، كقولهم: استسهلت هذا الأمر اعتقدته سهلًا، أو وجدته سهلًا، واستعظمته أي اعتقدته عظيمًا ووجدته؛ ومنه استفعلت بمعنى أصبت، كقولهم: استجدته أي أصبته جيدًا: ومنها بمعنى فَعل؛ كقوله: قرّ في المكان واستقر؛ وقالوا وقوله: {يَسْتَهْزِئُونَ} و{يَسْتَسْخِرُونَ} منه؛ فقوله تعالى: {اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} خلقكم لعمارتها، لا على معنى استجدته واستسهلته؛ أي أصبته جيدًا وسهلًا، وهذا يستحيل في الخالق، فيرجع إلى أنه خلق؛ لأنه الفائدة، وقد يعبر عن الشيء بفائدته مجازًا؛ ولا يصح أن يقال: إنه طلبٌ من الله تعالى لعمارتها، فإن هذا اللفظ لا يجوز في حقه، أما إنه يصح أن يقال: أنه استدعى عمارتها فإنه جاء بلفظ استفعل، وهو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه إذا كان أمرًا، وطلب للفعل إذا كان من الأدنى إلى الأعلى (رغبة).
قلت: لم يذكر استفعل بمعنى أفعل، مثل قوله: استوقد بمعنى أوقد، وقد ذكرناه وهي:
الرابعة:
ويكون فيها دليل على الإسكان والعمرى وقد مضى القول في البقرة في السُّكنى والرُّقْبى.
وأما العُمْرى فاختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تمليك لمنافع الرقبة حياةَ المُعْمَر مدة عمره؛ فإن لم يذكر عقبًا فمات المعمر رجعت إلى الذي أعطاها أو لورثته هذا قول القاسم بن محمد ويزيد بن قُسيط والليث بن سعد، وهو مشهور مذهب مالك، وأحد أقوال الشافعي، وقد تقدّم في البقرة حجة هذا القول.
الثاني: أنها تمليك الرقبة ومنافعها وهي هبة مبتولة؛ وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثّوري والحسن بن حيّ وأحمد بن حنبل وابن شُبْرمة وأبي عُبيد؛ قالوا: من أعمر رجلًا شيئًا حياته فهو له حياته، وبعد وفاته لورثته؛ لأنه قد ملك رقبتها، وشرط المعطي الحياة والعمر باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العمرى جائزة». و«العمرى لمن وُهِبت له».
الثالث: إن قال عُمرك ولم يذكر العقب كان كالقول الأوّل: وإن قال لعقبك كان كالقول الثاني؛ وبه قال الزهريّ وأبو ثور وأبو سلَمة بن عبد الرحمن وابن أبي ذئب، وقد رُوي عن مالك؛ وهو ظاهر قوله في الموطأ.
والمعروف عنه وعن أصحابه أنها ترجع إلى المُعْمِر؛ إذا انقرض عقب المُعْمَر؛ إن كان المُعْمِر حيّا، وإلا فإلى من كان حيّا من ورثته، وأولى الناس بميراثه.
ولا يملك المُعْمَر بلفظ العمرى عند مالك وأصحابه رقبة شيء من الأشياء، وإنما يملك بلفظ العُمْرى المنفعة دون الرقبة.
وقد قال مالك في الحبس أيضًا: إذا حبس على رجل وعقبه أنه لا يرجع إليه.
وإن حبس على رجل بعينه حياته رجع إليه، وكذلك العُمْرى قياسًا، وهو ظاهر الموطأ.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَيُّما رجلٍ أعْمر رجلًا عُمْرى له ولعقبِه فقال قد أعطيتُكَها وعقِبَك ما بقي منكم أحد فإنها لمن أعطِيها وأنها لا ترجع إلى صاحبها من أجلِ أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث». وعنه قال: إن العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبِك، فأما إذا قال: هي لك ما عِشتَ فإنها ترجع إلى صاحبها؛ قال مَعْمَر: وبذلك كان الزّهري يفتي.
قلت: معنى القرآن يجري مع أهل القول الثاني؛ لأن الله سبحانه قال: {واستعمركم} بمعنى أعمركم؛ فأعمر الرجل الصالح فيها مدة حياته بالعمل الصالح، وبعد موته بالذكر الجميل والثناء الحسن؛ وبالعكس الرجل الفاجر؛ فالدنيا ظرف لهما حياة وموتًا.
وقد يقال: إن الثناء الحسن يجري مجرى العقِب.
وفي التنزيل: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 84] أي ثناء حسنًا.
وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين} [الصافات: 77] وقال: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113].
الخامسة:
قوله تعالى: {فاستغفروه} أي سلوه المغفرة من عبادة الأصنام.
{ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} أي ارجعوا إلى عبادته.
{إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} أي قريب الإجابة لمن دعاه.
وقد مضى في البقرة عند قوله: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع} [البقرة: 186] القولُ فيه.
قوله تعالى: {قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا} أي كنا نرجو أن تكون فينا سيّدًا قبل هذا؛ أي قبل دعوتك النبوّة.
وقيل: كان صالح يعيب آلهتهم ويشنؤها، وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم، فلما دعاهم إلى الله قالوا: انقطع رجاؤنا منك.
{أَتَنْهَانَا} استفهام معناه الإنكار.
{أَن نَّعْبُدَ} أي عن أن نعبد.
{مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} فأن في محل نصب بإسقاط حرف الجر.
{وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ} وفي سورة إبراهيم: {وَإِنَّا} والأصل وإنّنا؛ فاستثقل ثلاث نونات فأسقط الثالثة.
{مِّمَّا تَدْعُونَا} الخطاب لصالح، وفي سورة إبراهيم: {تَدْعُونَنَا} لأن الخطاب للرسل (صلوات الله وسلامه عليهم): {إِلَيْهِ مُرِيبٍ} من أربته فأنا أريبه إذا فعلت به فعلًا يوجب لديه الريبة.
قال الهذلي:
كنتُ إذا أتوتُهُ من غَيْبِ ** يَشُمُّ عِطْفِي ويَبُزُّ ثَوْبِي

كأنّما أربتُه بِرَيْبِ...

. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {وإلى ثمود أخاهم صالحًا} يعني وأرسلنا إلى ثمود وهم سكان الحجر أخاهم صالحًا يعني في النسب لا في الدين: {قال يا قوم اعبدوا الله} أي وحدوا الله وخصوه بالعبادة: {ما لكم من إله غيره} يعني هو إلهكم المستحق للعبادة لا هذه الأصنام ثم ذكر سبحانه وتعالى الدلائل الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال تعالى: {هو أنشأكم من الأرض} يعني أنه هو ابتدأ خلقكم من الأرض وذلك أنهم من بني آدم وآدم خلق من الأرض: {واستعمركم فيها} يعني وجعلكم عمارها وسكانها، وقال الضحاك: أطال أعماركم فيها حتى كان الواحد منهم يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف سنة وكذلك كان قوم عاد وقال مجاهد: أعمركم من العمرى أي جعلها لكم ما عشتم: {فاستغفروه} يعني: من ذنوبكم: {ثم توبوا إليه} يعني من الشرك: {إن ربي قريب} يعني من المؤمنين: {مجيب} لدعائهم: {قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوًا قبل هذا} يعني: قبل هذا القول الذي جئت به والمعنى إنا كنا نرجوا أن تكون فينا سيدًا لأنه كان من قبيلتهم وكان يعين ضعيفهم ويغني فقيرهم، وقيل: معناه أنا كنا نطمع أن تعود إلى ديننا فلما أظهر دعاءهم إلى الله وعاب الأصنام انقطع رجاؤهم منه: {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا} يعني الآلهة: {وإننا لفي شك مما تدعونا إليه} يعني من عبادة الله: {مريب} يعني انا مرتابون في قولك من أرابه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس ووقوعها في التهمة. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}
قرأ ابن وثاب والأعمش: {وإلى ثمود} بالصرف على إرادة الحي، والجمهور على منع الصرف ذهابًا إلى القبيلة.
أنشأكم اخترعكم وأوجدكم، وذلك باختراع آدم أصلهم، فكان إنشاء الأصل إنشاء للفرع.
وقيل: من الأرض باعتبار الأصل المتولد منه النبات، المتولد منه الغذاء، المتولد منه المني ودم الطمث، المتولد منهما الإنسان.
وقيل: من بمعنى في واستعمركم جعلكم عمارًا.
وقيل: استعمركم من العمر أي: استبقاكم فيها قاله الضحاك أي، أطال أعماركم.
وقيل: من العمرى، قاله مجاهد: فيكون استعمر في معنى أعمر، كاستهلكه في معنى أهلكه.
والمعنى: أعمركم فيها دياركم، ثم هو وارثها منكم.
أو بمعنى: جعلكم معمرين دياركم فيها، لأنّ من ورث داره من بعده فإنه أعمره إياها، لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره.
وقال زيد بن أسلم: استعمركم أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء مساكن وغرس أشجار.
وقيل: ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها، إن ربي قريب أي: داني الرحمة، مجيب لمن دعاه.
قد كنت فينا مرجوًا.
قال كعب: كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم، لأنه كان ذا حسب وثروة.
وعن ابن عباس: فاضلًا خيرًا نقدمك على جميعنا.
وقال مقاتل: كانوا يرجعون رجوعه إلى دينهم، إذ كان يبغض أصنامهم، ويعدل عن دينهم، فلما أظهر إنذارهم انقطع رجاؤهم منه.
وذكر الماوردي يرجون خيره، فلما أنذرهم انقطع رجاؤه خيره.
وبسط الزمخشري هذا القول فقال: فينا فيما بيننا مرجوًا كانت تلوح فيك مخايل الخير وجمارات الرشد، فكنا نرجوك لننتفع بك، وتكون مشاورًا في الأمور مسترشدًا في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك، وعلمنا أنْ لا خير فيك انتهى.
وقيل: لما كان قوى الخاطر، وكان من قبيلتهم، قوي رجاؤهم في أنْ ينصر دينهم ويقوي مذهبهم.
وقال ابن عطية: والظاهر الذي حكاه الجمهور أن قوله: مرجوًا مشورًا، نؤمل فيك أن تكون سيدًا سادًّا مسدّ الأكابر، ثم قرروه على التوبيخ في زعمهم بقولهم: أتنهانا.
وحكى النقاش عن بعضهم أنه قال: معناه حقيرًا، فإما أن يكون لفظ مرجو بمعنى حقير، فليس ذلك في كلام العرب، وإنما يتجه ذلك على جهة التفسير للمعنى، وذلك أنّ القصد بقولهم: مرجوًا بقول: لقد كنت فينا سهلًا مرامك، قريبًا رد أمرك ممن لا يظن أنْ يستعجل من أمره مثل هذا.
فمعنى مرجوًا أي: مؤخرًا اطراحه وغلبته.
ونحو هذا فيكون ذلك على جهة الاحتقار، ولذلك فسر بحقير، ثم يجيء قولهم: أتنهانا، على جهة التوعد والاستبشاع لهذه المقالة منه انتهى.
وما يعبد آباؤنا حكاية حال ماضية، وأنا وإننا لغتان لقريش.
قال الفراء: من قال إننا أخرج الحرف على أصله، لأن كناية المتكلمين ن، فاجتمعت ثلاث نونات.
ومن قال: أنا استثقل، اجتماعها، فأسقط الثالثة وأبقى الأولتين انتهى.
والذي أختاره أن ن ضمير المتكلمين لا تكون المحذوفة، لأن في حذفها حذف بعض اسم وبقي منه حرف ساكن، وإنما المحذوفة النون الثانية من أنّ فحذفت لاجتماع الأمثال، وبقي من الحرف الهمزة والنون الساكنة، وهذا أولى من حذف ما بقي منه حرف.
وأيضًا فقد عهد حذف هذه النون مع غير ضمير المتكلمين، ولم يعهد حذف نون ن، فكان حذفها من أن أولى.
ومريب اسم فاعل من متعد، أرابه أوقعه في الريبة، وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة.
أو من لازم أراب الرجل إذا كان ذا ريبة، وأسند ذلك إلى الشك إسنادًا مجازيًا، ووجود مثل هذا الشك كوجود التصميم على الكفر. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وإلى ثمود أخاهُم صالحًا} عطفٌ على ما سبق من قوله تعالى: {وإلى عادٍ أخاهُم هُودًا} وثمودٌهي قبيلةٌ من العرب سُمّوا باسم أبيهم الأكبرِ ثمودَ بنِ عابر بن إرمَ بنِ سام وقيل: إنما سُمّوا بذلك لقلة مائِهم من الثَّمْد وهو الماءُ القليل، وصالح عليه الصلاة والسلام هو ابنُ عبيدِ بنِ آسف بنِ ماشج بن عبيدِ بن جادر بن ثمودَ، ولما كان الإخبارُ بإرساله إليهم مظِنّةً لأن يسأل ويقال: ماذا قال لهم؟ قيل جوابًا عنه بطريق الاستئنافِ: {قالَ يَا قوم اعْبدُوا الله} أي وحدَه وعلل ذلك بقوله: {مَا لَكُم مِّن إله غيرُهُ} ثم زيد فيما يبعثهم على الإيمان والتوحيدِ ويحثّهم على زيادة الإخلاصِ فيه بقوله: {هُو أنشَأَكُم مِّن الأَرْضِ} أي هو كوّنكم وخلقَكم منها لا غيرُه، قصرُ قلبٍ أو قصرُ إفرادٍ فإن خلق آدمَ عليه الصلاة والسلام منها خلقٌ لجميع أفرادِ البشر منها لما مر مرارًا من أن خِلقتَه عليه الصلاة والسلام لم تكن مقصورةً على نفسه بل كانت أُنموذجًا منطويًا على خلق جميعِ ذرياتِه التي ستوجد إلى يوم القيامة انطواءً إجماليًا، وقيل: إن خلقَ آدمَ عليه الصلاة والسلام وإنشاءَ موادِّ النطَفِ التي منها خُلق نسلُه من التراب إنشاءٌ لجميع الخلقِ من الأرض فتدبر: {واسْتَعمرَكُم} من العمر أي عمّركم واستبقاكم: {فِيهَا} أو من العِمارة أي أقدركم على عِمارتها أو أمركم بها، وقيل: هو من العمرى بمعنى أعمرَكم فيها ديارَكم ويرِثها منكم بعد انصرامِ أعمارِكم أو جعلكم معمِّرين ديارَكم تسكُنونها مدةَ عمرِكم ثم تتركونها لمثلكم: {فاسْتغفِرُوه ثُمَّ تُوبُوا إِلَيه} فإن ما فُصل من فنون الإحسانِ داعٍ إلى الاستغفار عما وقع منهم من التفريط والتوبةِ عما كانوا يباشرونه من القبائح، وقد زيد في بيان ما يوجب ذلك فقيل: {إنَّ رَبِّي قَرِيب} أي قريبُ الرحمةِ كقوله تعالى: {إن رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين}، {مُّجِيبٌ} لمن دعاه وسأله، وقد روعيَ في النظم الكريمِ نكتةٌ حيث قُدّم ذكرُ العلةِ الباعثةِ المتقدمةِ على الأمر بالاستغفار والتوبةِ وأُخّر عنه ذكرُ الغائيةِ المتأخرةِ عنهما في الوجود أعني الإجابة.
{قَالُوا يا صَالِحُ قد كُنتَ فينَا مَرْجُوًّا} أي كنا نرجو منك لِما كنا نرى منك من دلائل السَّداد ومخايلِ الرشاد أن تكون لنا سيدًا ومستشارًا في الأمور. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فاضلًا خيّرًا نقدّمك على جميعنا. وقيل: كنا نرجو أن تدخُلَ في ديننا وتوافقَنا على ما نحن عليه: {قَبْلَ هَذَا} الذي باشرتَه من الدعوة إلى التوحيد وتركِ عبادةِ الآلهة، أو قبل هذا الوقتِ فكأنهم لم يكونوا إلى الآن على يأس من ذلك ولو بعد الدعوةِ إلى الحق فالآن قد انصرَم عنك رجاؤُنا. وقرأ طلحةُ مرجُوءًا بالمد والهمزة: {أَتَنْهَانا أَن نَعْبُد مَا يَعبد آبَاؤنا} أي عبَدوه، والعدولُ إلى صيغة المضارعِ لحكاية الحالِ الماضية: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيهِ} من التوحيد وتركِ عبادةِ الأوثانِ وغيرِ ذلك من الاستغفار والتوبة: {مُرِيبٍ} أي مُوقعٌ في الريبة، مِنْ أرابه أي أوقعه في الريبة، أي قلقِ النفسِ وانتفاءِ الطمُأنينة أو من أراب إذا كان ذا رِيبةٍ وأيَّهما كان فالإسنادُ مجازيٌّ والتنوينُ فيه وفي (شك) للتفخيم. اهـ.